الأربعاء، ٢٦ مايو ٢٠١٠

AAلشركات المتعددة الجنسيات: الماضي.. والحاضر


بشار المنير
2008-08-16
في قرية جميلة وادعة تدعى (بريتون وودز) في ولاية نيو هامبشاير التقى ممثلو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في شهر تموز من عام (1944) ووضعوا اتفاقية لاستقرار نظام النقد العالمي، ولعبت هذه الاتفاقية دوراً أساسياً في استقرار الأوضاع الاقتصادية في الدول الكبـرى حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي، وتنص تلك الاتفاقية على الحفاظ على عملات هـذه الدول ثابتة تجاه الدولار من ناحية، وتعهد المصرف المركزي الأمريكي بتحويل الدولار إلى ذهب عند الطلب من ناحية أخرى، ومارست تلك الدول رقابة مشددة على تداول العملات الأجنبية حيث لم يكن متاحاً تحويل مبالغ كبيرة إلى الخارج إلا بعد موافقة حكومية، وسارت الأمور على هذا المنوال، لكن شيئاً ما بدأ يلوح في الأفق، لقد ضاقت الأسواق، وازدادت الفوائض النقدية، وجنّدت المصارف الكبرى والشركات الصناعية العملاقة كل إمكاناتها للخـلاص
من قيود (بريتون وودز) وكان لها ما أرادت حين ألغت كل من الولايات المتحدة وألمانيا وكندا وسويسرا الرقابة على أسواق المال وتم تحريرها، وانهار نظام أسعار الصرف الثابتة، وحتى الدول الأكثر تشدداً في ممارسة الرقابة وجدت نفسها منساقة إلى إلغائها بفعل الضغوط الهائلة من قـبل شركاتها الكبرى بحجة حرمانها في ظل الرقابة من الحصول على قروض بفوائد منخفضة من العالم الخارجي، فألغت بريطانيا قيودها في عام (1979) ولحقت بها اليابان بعد عام واحد، ومع سيطرة مفاهيم الليبرالية الجديدة، وثورة المعلوماتية والاتصالات، أصبحت أسواق المال وشركات الاستثمار العملاقة سيدة الموقف، وتحولت دول العالم رغماً عن المحيطات.. والبحار إلى قرية عالمية واحدة. (راجع النظام الاقتصادي الدولي المعاصر – د. حازم الببلاوي).
وكما أن لكل عصر فرسانه، فإن لعصر الليبرالية الجديدة والعولمة أيضاً نجومه،كالشركات العابرة للقارات متعددة الجنسية، وشبكات التلفزيون والصحافة، ومراكز الأبحاث، ومنصات التجسس العلمي والصناعي، وشركات التسويق والإعلان، ومراكز المال الموزعة على الأسواق المالية الكبرى في العالم، لقد أصبح واضحاً أن حكومات هذه الشركات العملاقة تقيّم سياستها التجارية استناداً للمنفعة التي ستجلبها لصالح هذه الشركات، وبدلاً من سعي هذه الحكومات لخلق عالم أفضل لشعوبها، تسعى إلى أيجاد بيئة مثالية لعابري القارات التجاريين، الذين يديرون بدورهم الظهور لمساندة حكوماتهم إذا ما أرادت تحسين الوضع المادي والاجتماعي للشعوب، وكما قال كليف آلن نائب الرئيس التنفيذي لشركة نورتل نيت وورك الكندية:كوننا ولدنا هناك (في كندا) لا يعني أننا سنظل هناك، يجب ألا يشعر الكنديون بأنهم يمتلكوننا، يجب أن يظل المكان جذاباً لنا لنظل مهتمين بالبقاء فيه. (راجع – السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس).
يمكن تعريف الشركة المتعددة الجنسيات بأنها شركة مقرها الرئيسي في الدولة الأم أو دولة المقر، ولها نشاطات اقتصادية متعددة في مجالات تجارية وصناعية ومالية، وعمليات موزعة على أكثر من دولة سواء عن طريق مشاريع خاصة أو شركات تابعة وكثيراً ما تندمج مع شركات من دول أخرى، وتلعب هذه الشركات دوراً رئيسياً في التدفق العالمي للاستثمار الأجنبي المباشر في مجموعة كبيرة من البلدان تتوزع في أرجاء العالم مما جعلها تسيطر حالياً على حوالي ثلثي التجارة العالمية.
لقد ازداد ت أهمية الدور الذي تلعبه هذه الشركات في العقدين الأخيرين من القرن الماضي إذ سيطرت على قنوات النفاذ إلى مختلف بلدان العالم، أضف إلى تحكمها بالتطور التقني على المستوى العالمي لما تمتلكه من موارد مالية وبشريـــة ومصانع متطورة، وقد منحتها العولمة فرصة لزيادة مساهماتها في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي أدى إلى تبدل السياسات التي اتبعتها الدول النامية في الماضي تجاه هذه الشركات، لاسيما بعد انهيار الدول الاشتراكية، وإصرار الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على تسويق "اتفاق واشنطن" للدول الاشتراكية سابقاً ودول الجنوب، فعوضاً عن سياسة المنع.. التضييق.. والارتياب، وفي كثير مـــــن الأحيان تأميم الممتلكات، حلت سياسة جذب.. وإغراء.. وتسهيلات.. وذلك للأسباب التالية:
1 – انتهاج سياسة اقتصادية تعتمد على اقتصاد السوق والمنافسة، فهي بحاجة لجهود هذه الشركات بما تمتلكه من موارد وتقنيات تساعدها على دخول الأسواق العالمية والاندماج بالعملية الاقتصادية الدولية.
2 - الرغبة في تحديث البنية التحتية والخدمات بما في ذلك الاتصالات، حيث دخلت إلى تلك الدول شركات التعهدات والإنشاءات الكبيرة، وشركات الهاتف الثابت والنقال وأنظمة الحواسب.
3 – حاجة الدول النامية إلى الاستثمارات الخارجية نظراً لضعف الاستثمار الداخلي، وعـدم قدرة تلك الدول على تطوير اقتصادها بقدراتها الذاتية دون استثمارات خارجية كبيرة لاسيما في تطوير استغلالها للموارد الطبيعية.
هكذا إذاً، حاجة ملحة من جانب الدول النامية للاستثمار الخارجي... ونهم شديد لتصدير الرساميل وزيادة الاستثمارات من قبل الشركات متعددة الجنسية، ولكن الماضي لا يشفع لكليهما في الممارسات الموجهة ضد الطرف الآخر، فكثيراً ما حلت الخلافات الناشئة بينهما إما عن طريق الانقلابات والإطاحة بالحكومات أو عن طريق تأميم ممتلكات الشركات في هذا البلد أو ذاك.
في عام (1954) أطاحت شركة يونايتد فروت العالمية بحكومة الرئيس غوزمان في غواتيمالا، وبعد عشرين عاماً وبالتحديد في عام (1973) أطاحت شركة التلفونات المتعددة الجنسيات بالرئيس أليندي عبر مذبـحة راح ضحيتها المئات من خيرة أبناء الشعب التشيلي. (راجع التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين-جان اسلان)
أما في منطقتنا العربية، فالعلاقة قديمة بينها وبين الشركات متعددة الجنسية إذ تعود لبداية القرن العشرين، فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت شركة(بريتش بترو ليوم وشل) أول من حصــل علــى امتياز للبحث عن البترول في العراق عام (1920) وفي عام (1923) حصلت شركة /ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا / على امتياز للتنقيب عن النفط في السعودية، أما شركات الأدوية فقد دخلت مصر خلال فترة الستينات، حيث استطاعت تسع شركات متعددة الجنسيات مثل (هوست – سيبا – فايزر) إقامة مشاريع مشتركة لإنتاج الأدوية، فتطورت صناعة الأدوية المصرية وارتبطت هذه الصناعة بمثيلاتها في أوربا عن طريق التجارة، أما في صناعة السيارات فكانت / فيات/ للسيارات، أول شركة متعددة الجنسيات تنقل التكنولوجيا إلى مصر في عام (1961)، وحالياً توجد (12) شركة سيارات تنشط في مجال تصنيع وتجميع السيارات المصرية، وفي سلطنة عمان تم عام (1964) إنشاء شركة تنمية البترول المحدودة والتي تشارك فيها شركة رويال دو تش وبدأت تصدير النفط عام (1967)، إن النشاط الأبرز الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسيات هو صناعة استخراج وتكرير وتصدير النفط إضافة إلى بعض المساهمات الدوائية والغذائية، وقد بلغ عدد هذه الشركات في البلاد العربية 2400 شركة لغاية عام (2006) يتركز حوالي (1800) منها في المملكة العربية السعودية.
في سورية لا نعرف تلك الشركات إلا من خلال تجربة شائكة مع شركة نفط العراق في ستينات القرن العشرين، إضافة إلى بعض الشركـات حديثة العهد التي دخلت إلينا لاستثمار النفط السوري في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، وشركات أخرى متنوعة النشاط بعد سياسة تشجيع الاستثمار الخارجي وصدور قانون الاستثمار رقم (10) عام 1991، ولعل شركة/ نستله / هي المثال الأبرز حالياً بانتظار دخول شركات أخرى سمعنا عن رغبتها بالاستثمار في مشاريع خاصة ومشتركة مع الشركاء السوريين لاسيما بعد تبني الدولة لاقتصــــاد السوق.
ولحل المنازعات بين الدول المضيفة والشركات متعددة الجنسيات العاملة فيها، جرت محاولات عدة لوضع قواعد معينة يلتزم بها الطرفان، وتوصلت الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الأوربية في عام 2000 إلى وضع (الميثاق العالمي) الذي تضمن المبادىء التالية:
1 – أخذ السياسات المتبعة في الدول المضيفة في الاعتبار.
2 – المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة في الدول المضيفة.
3 – تشجيع تكوين رأس المال البشري، وخلق فرص عمالة، وتسهيل التدريب للعمال.
4 – دعم مبادىء الحكم الرشيد وحماية البيئة، والقضاء على عمالة الأطفال.
5 – تقديم البيانات والمعلومات اللازمة عن أنشطتها ووضعها المالي.
6 – عدم تقديم أو استلام رشاوى.
(راجع نشرة الأمم المتحدة – الاسكوا – اوكتوبر 2005)
أخيراً، لا يمكن لأحد إنكار الدور الذي يمكن أن تلعبه الاستثمارات المقيمة، والخارجية في تطوير الاقتصاد السوري، لكن المسألة تكمن في كيفية توظيف هذه الاستثمارات في السياق العام لخطة الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعدم السماح للاستثمارات الأجنبية بتهميش قرارنا الوطني، والنيل من سيادتنا على مواردنا.
القضية ليست صعبة إذا وضعنا مصلحة بلادنا... وشعبنا فوق أية مصلحة أخرى..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق